قراءة نقدية في قصيدة الشاعر خلف دلف(قهوة الصبح)
الباحثة الدكتورة /مريم الحربي
إنه الشاعر العراقي خلف دلف الحديثي، شاعر امتلك ناصية الحرف; فطوع القوافي كما أراد ، وامتلك من البيان ما جعل الصورة الشعرية تأتي مبهرة تكاد أن تكون شخوصا تتكلم ، فهو من شعراء ما بعد الحداثة ; لذا نجده متغربا في شعره، عميقا في معناه، يعيد ابتكار ذاته بلغة معاصرة غير تقليدية ، فنجد في شعره دلالات نابضة بالحياة بعيدة عن التقليد ، والنبطية السائدة، شاعر ذو مشاعر مرهفة، تأتي قصائده نهرًا يفيض بالرقة الطاغية ،امتطى الحزن ،فأطلقه نشيجًا رقيقًا ; ولكنه لم يتسع لأن يكون صامتًا ، فأتى صوته نداء الدّم حين يستفز الألم ، ليزودها بارتعاش الحرف في حنايا الروح ، اتخذ من العزلة أنيسًا فأمطر الساحة الشعرية بوابلا من القوافي العذبة وأسقى شتات الباحثين عن الجمال في الكلمة، وأسمع صداه اللاهثين خلف قنديل الحرف المعتق ،ولملم بموسقا شعره التائهين خلف سراب الفكرة ، لقد جعل الغياب معولا شق به جدار التقليد والنبطية ،ليستخرج الدهشة في أروع حللها.
ونقف مع قصيدته “قهوة الصبح” لنستشف شيئا من ملامح شعره التي سبق الحديث عنها:
رَتّشْ بهارَ فمي في قهوةِ الصُّبحِ
وليتركِ الليلُ فنجاني بلا نفحِ
افتتح الشاعر الأبيات بفعل الأمر “رتّش” الذي أتى به ليعلن حالة الانبثاق الشعري، وانبعاث جذوة لسانه المزينة بعبق القهوة ،آمرًا الليل أن يترك له فنجانه بلا نفح، فهو قد استغنى عن الظلمة بنور الصباح، وعبق قهوته الزاكية.
واغرقْ لجيدِ الندى في ماءِ جذوتِهِ
واحْرقْ بطينِ اللظى صيرورةَ القَدْحِ
تتوالى الأوامر هنا ” أغرق، أحرق” من بعد الأوامر في البيت السابق; ليظهر لنا الشاعر قويا متسلطًا لا يبالي بالنتائج المترقبة، فهو يعي أنه في بداية بوح واعتراف، وأن ما سيتبدا للقارئ منه لم يعد يهمه.
إنّي تعرّيْتُ شقّقْ عوْرتي فأنا
ما زلتُ أُغرقُ في جرْحِ الضحى جرْحي
أول الاعترافات:
التعرّي المؤكد ،واستمرار إغراق الجراح في منبع النور; لينطفئ ويخمد، فما هنا إلا محاولات من الشاعر على الاعتراف بحالة الانكشاف التي وصل إليها مرغمًا، والتي جعلته لم يعد يبالي بما بعدها في فعل الأمر ” شقق “.
فالحرف الاستهلالي والتوكيدي للبيت هنا “إني” أتى ليمحور الذات الشاعرة في قالب جميل ،فهذا الجرح الدفين لدى الشاعر ليس بالجرح المادي بل هو جرحٌ غائرٌ في روحه ، وفي قوله” مازلت” يشير أنه ليس كمن تتعب أنفاسه من السير الطويل ;فهو يحيا مقاومًا على أمل أن تبرأ الجراح، فيغرقها في نور الضحى علها تهدأ.
أنا أهندمُ أفكاري وأنسجُها
خيطاً من الطيبِ يحْوي جيبَهُ قمْحي
يوحي الفعلان” أهندم/ أنسج” بمدى عناية الشاعر بأفكاره وكيف أنه حريص على أن تظهر في حلة تليق به، وتفوح طيبًا زاكيًا، ويشير إلى أن هناك الكثير من الأفكار متبرعمة في جعبته”جيبه” مايزال بذرا” قمحي” وسيؤول القمح يوما إلى سنابل.
فعوْرةُ النبضِ في نبضي تشاكِسُني
وما أزالُ أدورُ الانَ في صرْحي
إن الاشتغال هنا على الدلالات من رموز، وتشخيصات يجعلنا نقف أمام روح شاعرة ثرة بمضامين اللغة; فهو لا يتأرجح بين البحث عن المفردة، وما يناسب الموقف، فالصورة تعبر عن وجدانية تفرض نفسها في مثل هذه الحالة.
فأسلوب الاستدلال راقٍ بين الفعلين تشاكسني وأدور ، إذ أظهرت امتداد الدوران باستمرار المشاكسة.
ممرّد وحطامُ النور يتبعني
والروحُ كلمى وروحي صافحَتْ ذبْحي
وهذا يقودنا الى تفسير المرونة الروحية التي يحياها الشاعر
فبالرغم من الإجحاف الحقيقي الذي يحياه الشاعر في حاضره، لكنه يظل منتظرًا ليوم النور ، وعلى الرغم من أنه ممرد، والكلوم تملأ روحه ، إلا أنه ينتظر النور، وإن أتاها حطاما ، وتصافح روحه آلامه وتصاحبها.
وهو دليل على خصوبة السلام في قلبه ونقاء سريرته، فالنور آتٍ مهما طالت حلكة الروح ،فالربط هنا بين الحطام والنور فيه ما ينم عن الأمل والحياة في خضم المتاعب، وكأن الشاعر يعود الى التأمل من جديد وقد امتلأ يقينه بالأمل .
أرى ارْتعاشي يُداري صوْتَ منزلقي
وخطوتي في فضائي دثّرَتْ قيْحي
معلّقٌ هُدْبُ صمتي في خيوطِ غدي
على جذوعِ الصدى في وَمضةِ اللمْحِ
هنا تشكيل رمزي جميل ،فقد فسر الارتعاش بأنه ليس سوى محاولة لإخفاء الإنزلاق، والتزحلق الذي يحصل في منعطفات الشاعر، بينما كل خطوة يخطوها هي بمثابة غطاء آخر يستر أثر الجروح المتقيّح.
واستبدال لفظة الجرح بالقيح إشارة أن جروح الشاعر الروحية قديمة ولم تلقَ طبّا وعناية مما أدى إلى تقيحها.
لذا نبشتْ لبعضي في فؤوسِ يدي
ومزّقتْ سوْءةُ الأيّامِ لي كشْحي
حالة التشظي التي يعيشها الشاعر تتجلى في هذا البيت والذي يتشظى فيه النسق على وقع ألم الشاعر كما فؤوسه التي تنبش فيه لتستخرج بعضه المدفون فاللام في “لبعضي” تعني أنه ينبش بعضه ليداوي بعضه الآخر.
لقد عانى الشاعر وقاسى الويلات التي لا يبوح بها، ولكن ينم شعره عنها ،فألفاظ مثل “مزقت” ” سوءة” إشارة لكل تلك المعاناة.
أفيقُ وحدي وبي من غربتي وجعٌ
به يدفّئني في ريحِها نُصْحي
دلالة عميقة على معاناة متفردة ،
فعندما تتحول الوحدة إلى وجع; دلالة مطلقة أن الوجع عميق فكيف إن رافق شاعرنا منذ ولادته ؟!
والوجع ربط معنوي وإشارة واضحة لفهم الشاعر الداء والدواء معا، ولأن شاعرنا لا يستسلم لآلامه ويرى في كل ظلمة بصيص نور; أتى بالمفردة “يدفئني ” كتوظيف جميلا وإشارة ملحة لطول بال الشاعر وعدم رضوخه لواقعه المرير ،فهو ما يزال ينتظر من وحدته وغربته الدفء والنصح.
أكذوبةٌ لم أزلْ مغموسةً عَطشاً
مَن ذا يُقبّلني حتى يُرى لوْحي
ملامحُ الأمسِ ما زالت تطاردُني
وتقرأُ الريحُ عنّي سورةَ المدْحِ
فهاهي الصيحة تعلو وبصيغة التأنيب والتحسر على الواقع المزيّف الذي مازال منغمسًا فيه ،وينتظر الخلاص منه عبر قبلة حب صادقة تنزعه من هذا الانغماس الاضطراري الذي ضاعت معه معالم لوحه ،وما يزال متأثرا لماض تصرم وخلّف الذكرى الجميلة التي تُردد أصداؤها كما تردد السورة ، وقد أتى التعبير “من ذا يقبلني” دقيقًا يبين رغبة الشاعر في الخلاص وانتظاره له، بينما التعبير “ملامح الأمس” يصخب بالتأزم والتحسر على ما مضى وكأنه في حالة خواء ويأس.
عشرونَ قرناً وَعُمري حلمُ أمنيةٍ
وما تزالُ الأنا تحتاجُ للرّمْحِ
يحسب الشاعر الأيام التي تمر بثقلها وعتادها على روحه، وأمنيته الوحيدة في عمره لم ينلها ،ولم تستطع الأيام أن تدنيها منه، ورغم مرور الزمن بثقله إلا أنه لم يغيره ،فالشاعر هو هو لم يزل مقاتلًا صنديدًا، وفارسًا يحمل رمحه لمجابهة الأيام.
ملائكُ الحبّ لا ما أدْرَكت قلقلي
لأنّني عالَمٌ أحتاجُ للشّرْحِ
الغموض يكتنف الذات الشاعرة، مما يستدعي التساؤلات حوله، فهو شيء لا يمكن تفسيره ولا شرحه وتعبيره، حتى مَن يقتربون منه من أحبابه لا يستشفّ لهم شيئا منه ،ولربما عانى، وهم بقربه ولكن أنى لهم تفسير العَالم الكبير الواسع، وتحليل ظواهره العصية.
لستُ الخيالَ ولكنّي علوْتُ على
كلّ الخيالاتِ حتّى لا أرى قُبْح
استهل البيت بالنفي; ليكون أبلغ في الإثبات، فقد نفى الخيال عنه، ولكن ذلك لا يعني أنه ليس خيالا، وإنما هو فوق الخيال، فحتى الخيالات الفكرية لا يمكنها الوصول إليه ،فهو يحاول الصعود حيث لا صعود ليغيب ويتلاشى، وكل ذلك هربًا من عيوبه التي يحرص ألا يراها.
عدَلْتُ عنّي ولذْتُ الآنَ في غُصَصي
وقد تُريدُ الأنا عن ثورتي كَبْحي
فالتذْتُ بي مطراً أدريه يُغْرقُني
وما سألْتُ الأنا عنْ غَيمةِ الصّلْحِ
حين ينقسم المرء إلى ذاتين كل منهما تفر من الأخرى ثم تلوذ بها هو دليل على تحول ايجابي لما هو قد آمن به، وتوظيفًا جميلًا لمفردات النص، فهو يتكئ على جمالية خاصة فمفردات مثل “عدلت- لذت- فالتذت” كلها شعور بالذات وهروبا منها إليها.
ومحاورة الذات والانقسام عنها، هي من نتائج غوص الشاعر العميق في خبايا نفسه، التي إن بلغ فيه مبلغا رأى من نفسه ما لا يعرفه عنها، فيبدأ التوجس والحذر، ثم الانغماس الكلي فيها، والهروب إليها.
وقد تَعَلّمْتُ منْ موْتي دروسَ غَد
كي لا أتوهَ ويلوي عَصْفُها جُنْحي
يرى الشاعر من نفسه عبرًا تعلمه وحتى من موته الذي لم يحدث بعد تعلم منه دروسا لما بعد غد، وكل ذلك خوفا من التيه وعواقبه.
فتصعيد الصور البيانية المدعمة باستعارة مثل(يلوي عصفها) والكناية في (تعلمت من موتي) يضفي بهاء ورونقًا جميلًا على لنص.
أنا الدليلُ إلى نفسي وغيْرتِها
وبي أفتّشُ عنّي في شذى الطّلْحِ
فتكرار مفردة “أنا” في النص يسلط الضوء على نقطة حساسة في العبارة ويكشف عن اهتمام الشاعر بذاته وشعور ما يراوده حوله ،وقلقه المستمر إزاء نفسه من شيء لم يتجلَّ بوضوح لنا، ولكن قد نستبين شيئا من ذلك من خلال بعض المفردات ،مثل ” الدليل” و “أفتش عني” فالشاعر يعيش حالة من الاغتراب والوحدة والتناقض مع نفسه فحينا نراه يود الغوص فيه والحتماء به، وحينا نراه يحاول الهروب والغتراب عنه .
مُلاءتي ضحكةُ النوّارِ ألبسُها
لأمنحَ الحلمَ لوْنا ثوبُهُ نوْحي
سطوة الشاعر المتمكن في خلق إيقاعٍ متفرد لهذين الشطرين فنراها صورًا بنائية إيحائية تخلق بناءً محوريا للنص وبأسلوبية انتقاء المفردات ،والصور ليرشدنا الى التحام الألم مع الأمل، فقد جعل من بهجة النوار ملءة له يلبسها زيا.
أنا ارتماءُ الندى في جفنِ ساقيةٍ
مَنْ ذا يلملمُني منْ دَهشةِ الفتْحِ
الأنا التي تكررت ما هي إلا إدراك ضمني للذات مرتبط بالحالة النفسية للشاعر بشكل مباشر، ويغتني بإيقاعات تفصح عن انفعالات داخلية، وما يريد أن يبعثه من رسائل ومضامين فكرية. التي تثير القلق والتوتر وتنتهي الى يقين بحتمية ما قد أصر الشاعر على تناولها بقوة في اللفظة “ارتماء” ثم وصف الارتماء هذا بالبعثرة التي تنتظر من يلملمها ويجمع شتاتها الذي تسببت فيه كثرة الدهشة والفتوحات الفكرية التي يقابلها.
الخاتمة:
من خلال تسليط الضوء على هذه الأبيات للشاعر خلف دلف، نلاحظ الانفعالية المعتمدة بتقنية التكرار (تكرار الكلمات) أدت دورها الوظيفي في تنامي الإيقاع داخل النص الشعري.
كما نلاحظ ذلك التماسك والتمسك بالقصيدة العمودية والتي طرح من خلالها شكواه، وآلامه، وغربته التي يشتكي منها أغلب شعراء القصيدة العمودية في زمن طغت عليه أنماط شعرية أخرى مختلفة لها مميزاتها في الساحة الشعرية، كما يمكن القول إن دوران الشاعر حول ذاته وبحثه عنها، وهروبه منها ;مرده بث مدى قلقه وتوجسه الذي يعيشه، ويريد نقله للمتلقي بطريقة مختلفة مع الإيحاء والترميز، لما لها من قدرة على استيعاب تجربته الشعرية.